لعل في مقدمة الدروس التي إستخلصها الإمام ناصر بن مرشد من تاريخ عمان أن كل الأعمال الكبيرة التي أنجزها العمانيون تمت من خلال وطن موحد , تستثمر إمكاناته البشرية والإقتصادية بما يعود بالمصلحة على الجمييع ومن أجل ذلك كان العمانيون لهم السبق عبر الحضارات المتعاقبة وحينما تطل الفتنة برأسها وينقسم الوطن إلى ممالك ودويلات صغيرة يحدث الإنحسار والتدهور , لذا فقد إستوعب الرجل تاريخ وطنه بوعي وإدراك شديدين .
لقد وضع الإمام ناصر بن مرشد أولويات العمل الوطني فلم يكن من المعقول أن يبادر بتحرير بلاده من القوات البرتغالية بينما الوطن مقسم , لهذا كان من الضروري أن يبدأ بجمع الشمل وتوحيد الكلمة وتجمع مصادر التاريخ على أن الإمام لم يبادر بإعلان الحرب إلا بعد أن إستنفذ كل الجهود الدبلوماسية , من أجل ذلك فقد كتب إلى أهل نزوى يدعوهم إلى جمع الشمل إلا أن هذه الدعوة لم تصادف رغبة بعض أهلها لذلك عجل بالسير إليها بنفسه وعندما ادرك أن الحرب واقعة لا محالة فضل العودة إلى الرستاق حيث جاءه وفد من سمائل برئاسة ملكها مانع بن سنان العميري معلنا مبايعته وبما أن نزوى كانت موضع إهتمام الإمام ناصر بن مرشد لأهميتها التاريخية والدينية فقد توجه إليها من سمائل حيث كان لعامل المباغته أكبر الأثر في إجماع أهلها على مبايعته .
واللافت للنظر أن الإمام ناصر بن مرشد كان حريصاً على عدم إراقة دماء المسلمين لذا فقد إستخدم كل وسائل الإقنا والحجة وما كان يلجأ إلا إذا حتمتها الظروف وفرضتها المصلحة العامة .
ونظراً لثقل المهمة التي كان يقوم بها الإمام وما كانت تحتمه من مواجهات عسكرية ضد أنصار التجزئة فقد كان يقيم في كل المناطق التي يدخلها عنوة بعضاً من الوقت ثم يغادرها إلى مناطق أخرى تاركاً بعض أنصاره لمواصلة مهمته في ترسيخ مبادئه ومواصلة دعوته التي اخذت تنساب في كل أرجاء عمان ومما يؤكد صعوبة المهمة التي مضى الإمام ناصر في سبيل تحقيقها كثرة الممالك التي أقيمت على مقومات قبلية بحيث يصعب التمييز بين القبيلة والحكومة .
ومن الظواهر اللافتة في سياسة الإمام إنه كلما حقق قدراً من الإنتصارات في سبيل تحقيق الوحدة راح يتريث ترقباً لرد فعل قد يحول دون إراقة الدماء إضافة إلى التقاط الأنفاس وترتيب الجند والعودة لتفقد أحوال المناطق التي دخلت في حوزته وهي سياسة حكيمة تعددت فوائدها على كل المستويات .
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن تمرد منطقة الظاهرة كان من أصعب العمليات التي واجهها الإمام , حيث إستشهد أعداد كبيرة من بينهم شقيق الإمام جاعد بن مرشد مما دفع الإمام ناصر إلى أن يتولى بنفسه قيادة العمليات العسكرية مما كان سبباً في إعادة السيطرة على الموقف بعد أن إرتفعت معنويات الجند الذين قاتلوا بشجاعة منقطعة النظير في مناطق عبري وحسن الغبي وكافة مناطق الظاهرة وتأكد الإمام أن تمرد أهل الظاهرة مرده إلى مؤامؤات ناصر بن قطن الذي حوصر في قلعته إلى أن إستنجد بالإمام متوسلاً العفو منه .
كما أدرك الجبور أن وحدة البلاد تتعارض مع مصالحهم المباشرة لذا فقد تمكنوا من إثارة القبائل التي تحت سيطرتهم ووصلت مخططاتهم إلى درجة التأمر على إغتيال الإمام ناصر , لذا فقد واجههم الإمام ودارت معركة كانت من أشد المعارك ضراوة وإنهزم الجبور وأتباعهم وقتل منهم أعداد كبيرة ويعلق الأزكوي على هذه المعركة قائلاً : لقد كثر القتل في البغاة حتى قيل إنهم عجزوا عن دفن موتاهم فكانوا يجعلون السبعة والثمانية في خبة .
وقد إعتمد الإمام على سياسة النفس الطويل ولا بأس من مهادنة خصومه أحياناً ومباغتتهم في بعض الأحيان فها هو يبعث بسراياه إلى المناطق التي إستعصت عليه لمناقشة خصومة وبعد أن يستوثق من موقفهم يكون قرار الحرب .
لقد ظهرت بطولات نادرة خلال الحروب التي لم تتوقف فها هو محمد بن غسان النزوي يقود العمليات ضد الجبور في منطقة الجو ناحية البريمي ثم يحقق إنتصاراً عظيماً يتوجه بعده على لوى التي إستعصى فتحها على قوات الإمام بسبب تحصيناتها وكثرة المدافعين عنها مما إضطر محمد بن غسان النزوى إلى طلب العون من القبائل القريبة من صحار التي كانت تتطلع إلى قوات الإمام وتترقب إنتصاراتها بهدف التعجيل بمواجهة البرتغاليين الذين أنزلوا بصحار وأهلها أبشع أنواع الممارسات مما دفع بأهل صحار إلى ترك مدينتهم واللجوء إلى المناطق البعيدة ترقباً لجولات أخرى , وهكذا كان الإمام ناصر بالنسبة إليهم بمثابة المنقذ من نير الإحتلال .
وقد تمكن محمد بن غسان بمساعدة القبائل من السيطرة على لوى حيث بدأ التفكير عملياً في صحار وهكذا إستطاع الإمام ناصر خلال سنوات حكمه 1624-1649م من أن يعيد لعمان وحدتها وتماسكها ويؤمنها إلى حد كبير من الأخطار الخارجية وكانت محاولاته نحو الوحدة مبعث أمل كبير وينفرد هذا الإمام العظيم من بين أئمة اليعاربة بأنه حارب على جبهتين الساحل والداخل في وقت واحد فلكما هدأت الأوضاع في الداخل راح يواجه القوات البرتغالية على الساحل وكلما حقق إنتصاراً على الساحل عاد إلى الداخل لمواصلة حروبه من أجل أن تكون عمان وطناً موحداً وعند وقاة الإمام ناصر بن مرشد في إبريل 1649م كانت كل القبائل العمانية تحت لواء واحد وإنتهت إلى غير رجعة مرحلة التمزق والتشتت وبدأت مرحلة جديدة من الوحدة في ظل حكومة مركزية .
أدرك الإمام ناصر بن مرشد أن مواجهة البرتغاليين على السواحل العمانية في حاجة إلى إمكانات أخرى تفوق تلك الإمكانات التقليدية التي إعتمد عليها اليعاربة في حروبهم ضد القبائل الرافضة لسلطة الدولة المركزية , لقد وقعت كل المعارك التي خاضها اليعاربة ضد القبائل على اليابسة أما البرتغاليون فقد كانوا أهل بحار ووسيلتهم في الحرب هي السفن , التي شهدت ظفرة كبيرة منذ الكشوف الجغرافية لذا فإن سياستهم الإستعمارية إعتمدت على إحتلالهم لكثير من المدن والقلاع والحصون التي تقع في طريق البحار والمحيطات دون اللجوء إلى التعمق في اليابسة .
وهكذا أدرك اليعاربة إمكانات عدوهم القادمن من أقصى الظرف الأوروبي كدولة بحرية خاضت معارك شرسة في سبيل الحفاظ على مصالحها الإستعمارية لذلك كانت العناية بالإسطول وتنمية الموارد الإقتصادية وتلاحم الشعب العماني في مقدمة الركائز الأساسية التي إعتمد عليها اليعاربة الذين طوروا إسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من الخبرة الإنجليزية في هذا المجال .
وكان إنتزاع صور وقريات من أيدي البرتغاليين في مقدمة العوامل التي ضاعفت من تماسك العمانيين وكانت بمثابة إختبار عملي لنجاح الوحدة التي خاض اليعاربة من أجلها حروباً ضارية .
لم يكن إنتزاع صور وقريات عملية سهلة فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفاءة القوتين المتنافستين إضافة إلى سياسة الوفاق التي إستجدت بين البرتغاليين وشركة الهند الشرقية البريطانية إبتداً من عام 1634م , لقد كانت المتغيرات السياسية سواء المحلية او الدولية في مقدمة عوامل كثيرة جعلت اليعاربة يناضلون في ظروف أشد قسوة إلا أن نجاحاتهم في تحقيق الوحدة الوطنية إضافة إلى المشاعر الدينية الجياشة التي فاقت أية مشاعر وطنية كل ذلك جعل عرب عمان يقبلون على التضحية بنفس راضية وبحماس ورغبة في الإستشهاد وهي عوامل كان يفتقدها البرتغاليون المتحضون في الثغور العمانية .
ومن الملاحظ أن اليعاربة قد إستثمروا إمكاناتهم بكفاءة عالية ولعل صحار كانت إقليماً إستراتيجياً هاماً في سياسة اليعاربة لذا فقط ضربوا عليها حصاراً شديداًَ بينما تحصن البرتغاليون داخل القلاع والحصون وراحوا يمطرون قوات الإمام بوابل من نيران مدفعيتهم مما دفع الإمام إلى بناء قلعة لكي يتحصن فيها العمانيون في مواجهة القلعة البرتغالية .
وبمجرد أن علمت القبائل العمانية بحصار صحار راحوا يتدفقون من كل صوب وخصوصاَ من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار وبينهما العمانيون قد ضربوا حصاراً على صحار , إذا بالإمام ناصر وقد بعث بسرايا أخرى إلى مسقط بقيادة خميس بن سعيد الشقصي وعلى الرغم من أن تلك السرايا لم تحقق نتائج حاسمة إلا إنها أربكت البرتغاليين في كل من صحار ومسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العمانية على كافة المعاقل البرتغالية .
وقد كان إستيلاء الإمام ناصر بن مرشد على مدينة صحار عام 1643م نقطة تحول جديدة في المواجهة العمانية البرتغالية .
لقد كانت قوات ناصر بن مرشد في أشد الحاجة إلى التقاط الأنفاس وعلى الرغمن من ذلك فقد تمكنت من تحرير كل المدن الساحلية العمانية ولم يبق إلا مسقط ومطرح التي تمكن المسعود بن رمضان من محاصرتها في وقت تفشي فيه مرض الطاعون بين البرتغاليين ولعلها كانت فرصة مناسبة لكي يجهز العمانيون على عدوهم خصوصاً وإن القصف المستمر لقوات مسعود بن رمضان كان عنيفاً لدرجة أربكت الحاميات البرتغالية بينما كان الطاعون يحصد ما يقرب من خمسين شخصاً في اليوم الواحد , ولم ينته هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وإنما نجم عنه إبرام هدنه جاء معظم بنودها في صالح العمانيين .
وقد إمتد صراع اليعاربة ضد منافسيهم لفترات زمنية طويلة , تباينت فيها المواقف السياسية , إلا أن أصعب الفترات واخطرها هي فترة الإمام ناصر بن مرشد حيث كان يقاتل في سبيل التحرير والوجحدة معاً وقد كبده ذلك قدراً هائلاً من الجهد والوقت حيث إستخدم كل الإمكانات المتاحة بمهارة شديدة بما في ذلك المفاوضات السياسية التي لجأ إليها عام 1648م وعند وفاته سنة 1649م لم يبق تحت السيطرة البرتغالية إلا مسقط ومطرح .
كما واصل سلطان بن سيف الذي بويع بالإمامة في إبريل 1649م جهاد الإمام ناصر بن مرشد حيث إزدادت طموحات العمانيين وأدركوا بأنهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من إحتلال دام أكثر من مائة وأربعين عاماً وادرك الإمام الجديد أهمية الوقت كعامل هام في الأجهاز على البرتغالين في الوقت الذي أخذ فيه البرتغاليون يضاعفون من تحصيناتهم في مسقط ومطرح وثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل إتجاه وزيادة في الحيطة حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار وعلى رؤوس الجبال بنوا مجموعة أبراج أقاموا فيه داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العمانية بوابل من نيران مدافعهم .
وقد إستطاع سلطان بن سيف أن يضرب حصاراً على القوات البرتغالية وبينما الحصار قائماً تمكن بعض الهنود من تقديم معلومات للإمام على درجة كبيرة من الخطورة دفعت بقواته إلى الدخول بينما الحامية البرتغالية قد أخذت على غرة مما أفقدها القدرة على المواجهة ومن ثم كان الإنهيار والإستسلام في ديسمبر سنة 1649م .
لقد أصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة حيث قتل معظم جنودهم وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لإمداد مسقط باءت بالفشل وبنهاية 1652م لم يبق للبرتغاليين في الخليج إلا وكالتهم في كينج .
لم يتوقف العمانيون عن مطاردة خصومهم حتى بعد أن إعتصموا في وكالتهم في كينج على الساحل الشرقي من الخليج وراح العمانيون يتعقبون عدوهم في الهند وشرق إفريقيا مما جعل الملاحة بين الوكالة التجارية للبرتغاليين في كينج وبين شرق إفريقيا والهند تبدو مستحيلة في ظل أحكام العمانيين سيطرتهم على الخليج العربي والمحيط الهندي .
لاشك أن اليعاربة قد إعتمدوا على قوتهم الذاتية مع قدر من المرونة الدبلوماسية في إطار العلاقات الدولية مستفيدين من تضارب المصالح بين القوى الأوروبية المتنافسة وهو جهاد لا يقل أهمية عن الحرب مما عاد على الدولة بقدر كبير من القوة والمنعة وخصوصاً فيما يتعلق بتطور البحرية العمانية إعتماداً على أحدث الخبرات الأوروبية في هذا المجال .
لقد إنطلقت السفن العمانية لتصفية الجيوب البرتغالية على السواحل الفارسية مما إضطر الحامية البرتغالية في كينج إلى الإنسحاب نهائياً مما أوجد نوعاً من المواجهة المباشرة بين العمانيين والفرس الذين راحوا يتضامنون مع الإنجليز والهولنديين ضد النشاط البحري العماني بحجة محاربة القرصنة , التي لم تكن من وجهة النظر القانونية إلا نوعاً من مشروعات الكفاح المسلح ضد قوى أجنبية إستباحت لنفسها حق الغزو والإحتكار والنهب .
وتشير المصادر التاريخية إلى الإزدهار الإقتصادي الذي حققه اليعاربة وخصوصاً مع نهاية عصر سلطان بن سيف فقد وصل درجة كادت تفيض البيضاء والصفراء من أيدي الناس على حد قول السالمي .
لقد تجسدت ملامح الوحدة الوطنية في أبهى صورها حيث كان العدل هدفاً للراعي ونهجاً للرعية ولذا أقبل العمانيون على تشييد الحصون والقلاع وشق الأفلاج وغرس الأشجار مما عاد على عمان بالخير والمنفعة .